الوليد بن عبيد الله المعروف بالبحتري شاعر عربي ينتمي الى قبيلة طيئ، وهو أحد كبار شعراء العصر العباسي,, ولد بمدينة منبج سنة 206ه في منطقة تقع بين حلب والفرات تتميز بجمال طبيعتها وفصاحة أهلها فكان لذلك أثره العميق في شحذ موهبته الشعرية وفي ميل نفسه إلى التعلق بالجمال عرف الحب في صباه فقد عشق علوة بنت زرعة الحلبية تلك التي ظل يذكرها في شعره حتى وهو في غمرة انشغاله بهموم الحياة وتدبير شؤون العيش من مدح للحكام وتقرب من الوزراء.
نشأ البحتري في بيئة طبيعية تغذي موهبته الشعرية,, وكان الشاعر أبو تمام يملأ الدنيا من حوله بشعره الذي تميز بالجدة والخيال الجامح وتوليد الصور الفنية.
وكان الشعراء في ذلك العصر قد وجدوا في المديح سبيلا الى الرزق والثراء وما أن أحس البحتري بقدرته الشعرية حتى رحل الى الشاعر ابي تمام الذي كان يزور حمص بعد أن تجول في الممالك الإسلامية شرقا وغرباً طلبا للعطاء, وكان الشعراء يقصدون ابا تمام طلبا لاعترافه بهم ونصحه لهم كما كان خبيرا بالصنعة الفنية فلما وفد عليه البحتري مع جمع من الشعراء قال أبو تمام للبحتري: أنت أشعر من انشدني فكيف حالك، ويبدو أن اعجابه به قد دفعه إلى الاطمئنان على أمور معاشه فشكا البحتري بؤسه وفقره فوجهه أبو تمام برسالة توصية الى أهل معرة النعمان مؤكداً على شاعريته الجيدة وكأنه يدفع به إلى مسيرته الطويلة في عالم المديح وجمع المال الذي أثبت البحتري أنه ظل خبيرا به طوال حياته, لقد خلف البحتري ديوانا كبيراً من الشعر يقع في خمسة أجزاء تنوعت فنونه الشعرية بين المدح والغزل والوصف والرثاء والحكمة أما الهجاء فقد كان فيه مقلا وقد نصح ابنه ان يحذف فيه ما قال من هجاء وما أن نضجت موهبة البحتري في الشام وذاع صيته حتى شد الرحال الى حاضرة الخلافة في بغداد تقربا الى الأمراء ثم الى الخلفاء فبدأ رحلة المديح بالفتح بن خاقان قائد جيوش الخليفة,, الذي امتحن صبره طويلا حتى أذن له بالمثول بين يديه بعد شهر من الانتظار ببابه وقد اهتز الفتح بن خاقان لقول البحتري:
وقد قلت للمعلى الى المجد طرفه
دع المجد فالفتح بن خاقان شاغله
ولكن البحتري كان أشد طموحا وكان يتطلع الى الوصول الى الخليفة نفسه ومازال يتودد الى الفتح بن خاقان حتى أوصله الى الخليفة المتوكل الذي كان يتفكه بطريقة انشاده للشعر وهي طريقة مثيرة فقد كان البحتري يأتي بحركات عصبية خلال الانشاد، مما دفع بحساده الى السخرية منه واصطناع المواقف المحرجة له، وكان البحتري يحاول ارضاء الخليفة بكل ما يستطيع من وسائل حتى لقد كتب بعض الشعر يعبر عن حال الخليفة تجاه بعض جواريه توددا وحبا حتى اصبح الشعر واسطة للرضى بين الخليفة وجاريته .
كان يرى في الشعر وسيلة لأشياء كثيرة,,فلم يكن الشعر تعبيرا عن مواجده بقدر ما كان وسيلة لتحقيق طموحه,, ولكن قلب البحتري لم يكن من الصخر فقد كانت له خفقاته وقراءة غزله تطلعنا على قدرته على التفنن مما يصرفنا عن التأثر بهذا العشق الى الأعجاب بقدرته الشعرية .
وتمرس البحتري الطويل على قول الشعر وجعل فنونه كثيرة فهو قد أدمن المديح طلبا للثروة وفرارا من الفقر الذي كان كابده في أول حياته وقد ترك البحتري عند وفاته ثروة جمعها من المديح جعلت من ذريته سادة أغنياء في قومهم, ومن الأغراض الشعرية التي برع فيها البحتري فن الوصف ولعل قصيدته في ديوان كسرى ان تكون إحدى روائع الشعر العربي فقد تجلت في هذه القصيدة قدرته على رسم الصورة الخارجية والالتفات الى التاريخ والآثار التي تجسد عبرة الايام
هكذا نرى البحتري قد جمع الى قدرته الفذة على التصوير الخارجي لمشهد الايوان الذي غادره المجد نهبا للظنون والعبر قدرته على الغوص في التاريخ ورؤية الزمن وهو ينتقل بالملوك والسوقة والقصور والاكواخ من حال الى حال.
تقلبت الأيام بالبحتري ولكنه ظل قابضا على جمرها حتى نجا منها فبعد ان غدر المنتصر بأبيه المتوكل ظل البحتري صاعدا رغم ادانته للغدر بشجاعة لا ندري كيف واتته إلا إذا تصورنا اعزازه وتقديره للمتوكل, وقد عاصر البحتري بعد المتوكل خمسة خلفاء هم المنتصر والمستعين والمعتز بن المتوكل ثم المهتدي بن الواثق ثم المعتمد بن المتوكل وقد استطاع البحتري من خلال حرصه على جمع المال ان ينقب في شخصية كل خليفة من هؤلاء عن مواطن القوة والضعف ومداخل الشخصية الإنسانية وهو هم يشغل ذوي الطموح فلا تحقيق لطموح إلا بدراسة شخصية من بيده مفاتيح الأمور وكان يبدأ مديحه للخليفة بهجاء من يكرهه هذا الخليفة فيشفي نفسه من كراهية سلفه قبل ان يستريح الى صورته في شعر الشاعر.
حفظ البحتري لابي تمام حق الأستاذية ونصيحة الأيام الأولى وهو يخطو على درب الشعر أولى خطواته فلما قال بعضهم للبحتري ان الناس يزعمون انك اشعر من ابي تمام فقال والله ما ينفعني هذا القول ولا يضر ابا تمام والله ما أكلت الخبز إلا به ولوددت ان الامر كما قالوا ولكني والله تابع له اخذ منه لا يؤذيه نسيمي يركد عن هوائه وارضى تنخفض عند سمائه, كانت فنونه الشعرية متأثرة بهذه الكلمات الأولى لأبي تمام فجاء شعر البحتري سهلا رشيق العبارة وضيء الصورة قوي النسيج فصيحا مطربا عذبا فكان فريدا بين شعراء عصره.